عن العيش والموت في زمن التطهير الستاليني: التسميم بالكذب هو مثل التسميم بالغاز

 

بسبب خطأ واحد ارتكبته ناتاشا الموظفة في مكتب الطباعة الرسمي، أقصيت من عملها. هو خطأ إملائي، إذ بدلا من أن تكتب «الجيش الأحمر» كتبت «الجيش الأقمر» واضعة حرفا في مكان حرف. لكن المسؤول الحزبي، في معرض كلامه على ما فعلته ناتاشا استبدل بدوره، عامداً هذه المرة، الجيش الأقمر بالجيش الأقذر. كلمة واحدة، أو حرف واحد إذن تسبّب في طرد الموظفة الأكثر كفاءة بين زميلاتها ورميها في الشارع، وموتها من ثمّ منتحرة بتجرّع السمّ.
هو خطأ عرَضي وبلا أهمية جرى رفعه إلى مصاف الجريمة. في الرواية التي كتبت في زمن التطهير الكبير، لم يَطَل نظام الاشتباه والتخوين الموظفة ناتاشا وحدها، فجميع شخصيات الرواية جرى تخوينهم، أعني أولئك الذين يتألّف منهم مجموع الضحايا، وفي مقابلهم الواشون والحزبيون والمأجورون من النظام. أوّل الضحايا كان زوج صوفيا بتروفنا، شخصية الرواية الأولى، الذي قُتل في بداية مرحلة التطهير، ثم ابنها، ثم صديقتها ناتاشا، وتلاها الشاب إيليك صديق ابنها، ثم هي نفسها وقد طُردت من وظيفتها وباتت تعيش على أمل عودة ابنها المنفيّ.
التاريخ الشخصي لهؤلاء لم يعصم أيّا منهم من التهمة، لم يفد في شيء كون الابن نيكولاي كان منتسبا إلى الكومسومول (منظمة الشبيبة السوفييتية) وأنه كان طالبا باهرا جرى التنويه بإنجازه العلمي في صحيفة «البرافدا». أما عن والدته فلم يكن سجلّها في العمل إلا ناصعا وقد رفعها إلى أن تكون رئيسة الطابعات على الآلة الكاتبة. لا يعصم التاريخ الشخصي إذن، ولا المحكمة تبرّئ بعد إلقاء التهمة.. آنذاك كانت الوشاية وحدها تكفي.
رواية «صوفيا بتروفنا» تحكي عن زمن التطهير الستاليني وكُتبت في إبّانه (بين 1939 و1940). كان من المحال نشرها عند صدورها، وإذ بدا، بعد رحيل ستالين، أن ذلك بات ممكنا، عادت السلطات السوفييتية الراغبة في فضح الستالينية إلى الحجر عليها. كان على الكاتبة ليديا تشوكوفسكايا أن تنتظر حتى سنة 1965 كي تصدر روايتها في فرنسا، وبالروسية، تحت عنوان آخر هو «البيت المهجور» وقد بُدّلت فيها أسماء الشخصيات أيضا. تلا ذلك صدورها، بالروسية أيضا، في الولايات المتحدة. أما في روسيا فسيطول الانتظار حتى زمن الانفتاح والشفافية (الغلاستنوست).

رواية «صوفيا بتروفنا» تحكي عن زمن التطهير الستاليني وكُتبت في إبّانه (بين 1939 و1940). كان من المحال نشرها عند صدورها، وإذ بدا، بعد رحيل ستالين، أن ذلك بات ممكنا، عادت السلطات السوفييتية الراغبة في فضح الستالينية إلى الحجر عليها.

أحسب أن تاريخ الرواية المقدّم لها مساعد على إبقائها حاضرة للقراءة. تاريخها هو حكايتها وهي (الرواية) ستكون ربما بلا قدرة على البقاء دونه. ذاك أنّ كل ما تكشفه عن العيش تحت وطأة الديكتاتورية، القاهرة والمأزومة معا، صار معلوما للمهتمين وغير المهتمين. تقسيم ما كان بيتا واحدا إلى منازل لعائلات عدّة، وكذلك انقلاب المراتب بين الطبقات الاجتماعية، حيث نقرأ، في الرواية، الدور والمكانة اللذين باتت تمتلكهما عاملة النظافة في مكتب الطباعة، خصوصا حين النظر في مسائل الخيانة والإهمال و»النقص الإجرامي لليقظة السياسية» لكن كل ذلك الذي ترويه الكاتبة بات من أوّليات الكلام عن الحياة في روسيا والدول التي ألحقت بها. لهذا تبدو قراءة الرواية بعد صدورها بالعربية السنة الفائتة (2022) استعادة لما هو معلوم جدا لقارئيه.
لهذا سيكون تاريخها المرفق بها مفيدا دائما، أولا لأنه يضيف إلى حكاية بطلتها حكاية الرواية ذاتها، وثانيا لكيلا يفاجأ القارئ المنتظِر أن يقع على عمل روائي رائد ومجدد من الناحية الفنية. فلولا المواضع التي تصف فيها الروائية معاناة بطلتها، واقفة في الطوابير الشبيهة بالمتاهات، رغم ازدحامها، ساعات طوالا، بل أياما، لتصل إلى تلك النافذة الصغيرة الضيّقة، وليجيبها الرجل الذي يطلّ منها وجهُه، بكلمة واحدة لا تجيب عما تسأله، لكانت الرواية مجرّد سرد حكائي عادي لحياة تلك الأسرة وعذاباتها في ذلك الزمن. أي أن الكاتبة ليديا تشوكوفسكايا آثرت الرجوع إلى زمن سابق في الكتابة الروائية الروسية، يتمثّل بالسرد التقليدي الذي يبدأ بأبطاله سعداء قانعين، وينتهي بهم ضحايا ومقهورين. نقرأ هنا «بلغة بسيطة بعيدة تماما عن الزخرفة والمجاز والصور الشعرية» حسبما كتب مترجم الرواية في تقديمه لها. ولا نعرف هنا إن كان هذا الخيار السردي خيارا مقصودا لتأكيد واقعية ما تتناوله الرواية، سواء على الصعيد العام، أو على الصعيد الشخصي، حيث تتطابق وقائع جرت للبطلة بتروفنا مع وقائع جرت مع كاتبتها، مثل أن زوجي الامرأتين كانا قد لقيا المصير نفسه في السنة الأولى من سنوات التطهير. كانت الكاتبة صديقة مقرّبة لأنا أخناتوفا، وكانت حاضرة في أوساط كتّاب التيارات الجديدة، وهي مع ذلك رأت أن التتابع السهل للوقائع، وإبقاء خطّ الروي متصلين، يجعلان نصّها أقرب إلى رسالة إدانة أبهت قوّتها شيوع فحواها. أما الكلام الأكثر حداثة وثقافية فتركته لما بعد صدور الرواية، ومنه قولها إنه يمكن تسميم شعب بالأكاذيب مثلما يسمّم شعب بالغاز.
«صوفيا بتروفنا» رواية ليديا تشوكوفسكايا صدرت عن «دار الرافدين» ترجمة يوسف نبيل عن الروسية – 167 صفحة ـ سنة الصدور 2022.

كاتب لبناني