هجرة العقول الخليجية إلى الهند وزنجبار في كتاب حداثة ظهرها إلى الجدار

حين كانت النخبة العربية تسافر أو تحلم بالسفر إلى أوروبا الغربية، لم تجد النخبة الخليجية في الأدب والفن والصحافة إلا الهند فضاءً للتغير والسفر والإقامة، بعد المضايقات الكثيرة من المستعمر الإنجليزي والقوى المحافظة التي ترفض أي لونٍ من ألوان التغير، ومنها الموسيقى، حيث عاش في الهند -مثلاً- الفنان العُماني سالم راشد الصوري، والفنانان الكويتيان عبد الله الفرج وخالد الفرج، إلى جانب إعلاميين ومعلمين، يوردهم الكاتب حسن مدن في كتابه «حداثة ظهرها إلى الجدار» واحدا واحدا، أسّسوا في الهند بيئة ثقافية بديلة، أمثال عبد الرحمن المدفع وأحمد بن سلطان بن سليم وإبراهيم العريض وعبد الله الزائد ومحمد صالح الموسوي وجواد جعفر الخابوي وعبد الله الطائي ومحمد أمين البستي وسليمان الدخيل وإبراهيم القاضي ومحمد طاهر الدباغ. وقد أسهموا في تأسيس جوّ عربيّ في الهند، بمعونة بعض التجار العرب. وبالموازاة وفي قارة بعيدة جغرافيا عن الخليج «شرق إفريقيا» كانت تتشكل منابر عمانية ناطقة بالعربية، ومطابع متواضعة ومجلات بوضع بسيط ولكنه مهم من ناحية التأسيس اضطلعت به النخب العربية هناك.

 

يسافر بنا الباحث البحريني حسن مدن في كتابه الصادر عام 2021 عن دار الرافدين بالعراق «حداثة ظهرها إلى الجدار» - قراءات في التحولات الثقافية في مجتمعات الخليج والجزيرة العربية - إلى أكثر من رحلة، متنقلا عبر حقب أولى يعود معظمها لبدايات القرن العشرين، لمعرفة المنبت الجيونولوجي لتشكل الوعي الثقافي والصحفي في الخليج العربي، وما واجهه ذلك التشكل من تحديات كبيرة سواء كانت اجتماعية بسبب البنية القبلية المحافظة والمتوجسة من كل جديد، أو بسبب النفوذ الاستعماري الحريص بدوره على كل ماهو « ثابت» ليظل الوضع الحياتي بتفاصيله الشكلية والثقافية على ما هو عليه من تبعية للماضي وانغلاق وتقوقع. تحديات اعترضت المسار التوعوي للنخب في الخليج العربي، وبالتالي اعترضت تشكل منابر ثقافية وصحف ومجلات ودوريات للتعبير الثقافي بكل مستوياته سواء الصحفي أو الأدبي، نقيض ما كان يحصل من تطور ونمو في العواصم العربية الأخرى كبيروت والقاهرة ودمشق وبغداد. حيث اضطرت العديد من النخب إلى هجرة بلدانهم والتنقل سواء في ما بينهم من بلدان قريبة تتفاوت فيها نسب الضوء والوعي وتقبل الجديد، أو بالسفر إلى الهند وتأسيس ما يمكن تسمتيه بالحالة العربية في الهند، حيث أفرد الكاتب لجزء وافر من كتابه للحديث عن هذا الموضوع عبر ذكر أسماء ومجلات وكيانات ثقافية، وإن كانت متواضعة وضعيفة، إلا أنها شكلت متنفسا للعديد ممن يجيد الكتابة والقراءة في التعبير ونثر الخوالج في هذه المنابر الصحفية البسيطة. كان إذن بين هذا الظلام المتلاطم في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أضواء نور زهيدة تبرق هنا وهناك. بحث الكاتب عن هذه الكوى المشرقة وتقصى أثرها، وكانت البداية في منطقة الحجاز وفي أكثر من عهد، حتى قبل توحدها مع المملكة العربية السعودية حين تأسست صحيفة «الحجاز» بنسختيها العربية والتركية، ثم في فترة الثورة العربية الكبرى، حيث «تحول الحجاز من ولاية تتبع السلطة العثمانية إلى دولة مستقلة» تم فيها تبني الكثير من الأفكار الإصلاحية ومن ذلك تعريب لغة الإدارة. ويمكن الحديث أيضا عن مجلة كانت تحمل اسم «القبلة» صدرت في مكة عام 1916 وكانت منفتحة على الكتاب العرب سواء من المقيمين في أوطانهم أو من الكتاب العرب في المهاجر الغربية، حيث كتب فيها كل من: عبدالرحمن الكواكبي وأنطون الجميل وأديب إسحاق وسليم كركس وشبلي شميل ومطفى لطفي المنفلوطي وإسماعيل مظهر وأدباء المهجر الأمريكي.

 

نجد كذلك أن وعيا مهما تشكل في البحرين والكويت التي نشأت فيها ما سماه حسن مدن بـ«أول مجلة خليجية» وهي مجلة الكويت. وإن كان الكاتب ركز أكثر على البحرين - بلده- وذلك نظرا لمعرفة خاصة بتشكلها الثقافي الدقيق، إلا أنه لم يغفل عن تشكلات ثقافية وصحفية في مختلف بلدان الخليج، نجد مثلا محطات تاريخية عن تشكل الصحافة والوعي الثقافي في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكانت البداية مع صحف حائظ بسبب «غياب المطابع وشح الإمكانيات في حينها» ومن تلك الصحف صحيفة «عمان» التي أصدرها إبراهيم المدفع في الشارقة عام 1927 وشارك في تحريرها كل من المؤرخ عبدالله بن صالح المطوع، وأحمد بن حديد، ومبارك الناخي، وحميد بن عبدالله الكندي، وحمد بن عبدالرحمن المدفع، وكانت نسخها محدودة جدا توزع بين الأصدقاء. أعقب ذلك إصدار مجلة فكاهية اسمها العمود 1931 ذات طبيعة ساخرة تركز على نقد أفعال الإنجليز في المنطقة وقد أسسها حمد عبدالرحمن المدفع. أما في دبي فقد صدرت صحيفة «صوت العصافير» عام 1933 وكانت تنتقد الأوضاع المحلية بصوت لاذع.

 

ولكن الباحث حسن مدن يعتبر الولادة الحقيقية للصحافة في الإمارات كانت مع نشرة «أخبار دبي» التي أصدرتها دائرة إعلام دبي في يناير 1965 كأول مطبوعة في الإمارات. وكذلك مجلة « الشروق» في الشارقة التي أسسها الأخوان تريم وعبدالله عمران ولكنها توقفت، ليتوجه مؤسساها إلى إصدار أول صحيفة إماراتية يومية وهي «الخليج» في أكتوبر عام 1970

 

نجد كذلك حديثا عن تشكل الصحافة العمانية في زنجبار على يد أكثر من مثقف عماني وعلى رأسهم الشاعر أبي مسلم البهلاني الذي أسس صحيفة النجاح عام 1911 «وقد صدرت في زنجبار أيضا صحف عمانية بعضها بالعربية وبعضها جمع إلى العربية اللغتين السواحلية والإنجليزية، ومن هذه الصحف «الفلق» التي صدرت في أبريل عام 1929»

 

ولكن ثمة أهمية أخرى لهذا الكتاب، إلى جانب أهميته التوثيقية، وهو أنه يقدّم الذاكرة الثقافية والسياسية في دول الخليج تحت إطار فكري، حيث نجد عميد الأدب العربي والمثقف التنويري طه حسين، يشكل إطارا لهذه الدراسة، انطلقت من خلاله فكرة الكتاب التي برقت في ذهنه أثناء مشاركته- كما يوضح في المقدّمة- في منتدى يتعلق بذكرى ميلاد صاحب «الأيام»، بورقة عنوانها «طه حسين وجزيرة العرب». لذلك، تحاول المقدّمة الضافية التي صدر بها الكتاب أن تبلور مفهوم النهضة بصورته العامة، حيث يقدّم الكاتب مفهوما بديلا أو مزاوجا له، وهو «الحداثة»، الذي أنشأ عليه كتابه.

 

يرى حسن مدن أن الحداثة في بلدان الخليج العربي برّانية عُمرانية ينقصها الجوهر، وهي بذلك ظهرها إلى الجدار بالمعنى الواضح من عُمران وإنشاءات، وهي إنجازاتٌ يقرّ الكاتب بأهميتها وببراعتها، مستحضرا، في سبيل توثيق هذه التيمة، مرجعياتٍ، من أبرزها خماسية عبد الرحمن منيف «مدن الملح». وهذه الحداثة البرّانية التي يراها الكاتب مهمّة في إطارها العمراني تنقصها حداثة جوهرية تتمثل بوجود مؤسسات مجتمع مدني تنظم الحياة ثقافيا وسياسيا واجتماعيا. وعلى الرغم من ذلك، شهد هذا الأمر انعطافات واجتهادات كثيرة عقودا، ولكنه مُني بهزّات واصطدامات، خصوصا مع التيارات المحافظة، وكذلك الاستعمار الإنجليزي الجاثم على مفاصل الحياة في الخليج العربي من عام 1820 إلى 1972. وقد سعت بريطانيا، خلال تلك الفترة، لأن «يبقى كل شيء على ما هو عليه»، من دون تسهيل لدوران الحركة الطبيعية للتاريخ. بل يورد الكاتب أمثلة عديدة على وقوف بريطانيا ضد أي محاولة للتطوير في النظم الاجتماعية لمجتمعات الخليج.

 

يُفرد الكاتب كذلك في كتابه الفكري التاريخي تدرّجات ظهور الصحافة في بعض مناطق الخليج وانتقال بعض روّادها من بلد خليجي إلى آخر، من أجل تأسيس جانبٍ ثقافي فيه، كما حدث مثلا مع العُماني عبد الله الطائي الذي كان يتنقل، بعد عودته من الهند، بين البحرين والكويت ثم عُمان، قبل أن يستقر في الإمارات. كما يأتي الكتاب على مساهمة العرب، وخصوصا الفلسطينيين، في تأسيس مدارس وقنوات إعلامية، فنجد مثلا هذه الفقرة المتعلقة بتأسيس أول مدرسة للبنات في دبي «وعرفت دبي كذلك تأسيس أول مدرسة للبنات، هي مدرسة خولة بنت الأزور التي افتتحت في العام الدراسي 1958 ــ 1959، تولت التعليم فيها مدرّساتٌ عربياتٌ بينهنّ الفلسطينية مليحة أبو شعبان، ناظرة المدرسة، ومن فلسطين أيضا كانت نعمة جرور وليلى عاشور وجليلة قدورة ونهاد شحاتة وسعاد أبو شاربين».

 

محمود الرحبي كاتب وروائي عماني